قالها المبدع مرسي جميل عزيز علي لسان كوكب الشرق .. فتغنت بالحكمه في رائعتها (فات الميعاد) : " عاوزنا نرجع زي زمان ..قول للزمان ارجع يازمان " . وفي السياسه كما في الحب ، وفي مسارات الشعوب كما في تجارب المشاعر : لايعود الزمان الي الخلف .
تقول ام كلثوم في (المعاهده المستحيله) التي تقترحها لكي يتحقق رجوع الزمان : " وهات لي قلب لاداب ولاحب ..ولا انجرح ولا داق حرمان " . إن للقلوب خبراتها ، وللشعوب تاريخها ، ومن ثم فإن عقول الامم لاتخوض المراحل التاليه من الازمنه بنفس الخبره .. لانها ببساطه تعلمت او اكتسبت الدروس ..ولأن الشعوب حيه .. وتتجدد .. لاتصدق من يمكن ان يقول انه إمتلك آلة الزمن .. او حاول إقناعها بأن التاريخ سوف يكرر نفسه .. وأن افلام الابيض والاسود يمكن ان تعود بعد ان تعودت اعيننا علي الشاشات الملونه ثلاثيه الابعاد .
دع هذا جانبا ، سوف نعود اليه بعد قليل . ارجو ان تعتبره تمهيدا لمقصد آخر اريد ان اناقشه ..وسيكون مدخلي - اذا سمحت - شخصيا : هل تعتقد انني اشعر بالسعاده بينما الكثيرون يترحمون علي ايام مبارك ؟ هل تظن انني اقول : هل رأيتم .. لقد كنت علي حق ؟ إجابتي هي النفي القاطع . لن يفيد مصر ان نتباري في (معايره سياسيه) . هذا يخرج لسانه ويقول : "ألم نقل لكم" ، وذاك يلوي شفتيه مرددا : "ماأسوأ من هذا الا ذاك" !
المواقف كانت ولم تزل بالنسبة لي مسألة مبدأ : لاتتلون . لاتتحول . لكن يمكنك ان تراجع افكارك بهدوء وفق منهج علمي . المراجعات أساس التطور ، وإعادة التقييم جوهر مايعرف باسم ( التغذيه الارتداديه) في منهج تحليل النظم . في ذات الوقت فإن التلون يعني ان الكاتب لم يكن يؤمن بما نشر علي الناس ، والتحول يؤكد انه كان يستفيد مما يحاول اقناع القراء به . ببساطه (يتربح) .
في مساء يوم ١١ فبراير وبعد ان قرأ المرحوم اللواء عمر سليمان بيانه الشهير معلنا نهاية عصر مبارك ، قلت بوضوح في تصريح لقناة العربيه :" من الان صرت معارضاً .. وفق الله العهد الجديد ". لقد كنت اعنيها حرفيا .. واثبتت الايام ذلك ..لكن الله لم يوفق بعد العهد الجديد .. ذلك أنه لم يبدأ بعد .. فنحن في زمن الانتقال ..وليس (زمن الاخوان) الا مرحله عابره.
خلال العامين الماضيين لم اعتكف في ( كلوب محمد علي ) ، كما هي الصوره النمطيه التي غرسها في ذهن الجمهور فيلم (ناصر ٥٦ ) التاريخي عن نخبة ماقبل ثورة يوليو ١٩٥٢ .. إن بعض ابناء جيل ٢٥ يناير يظنون ان القوي التقليديه التي انتمت الي عصر الرئيس مبارك تتلبسها تلك الحاله ، ويعتقدون انهم يريدون للايام ان تعود .. للاسف ، ومع بالغ الصدمه التي يمكن ان يسببها المعني التالي اقول : اكثر من آمن بضروره ان تتغير مصر بعد ماحدث في يناير / فبراير ٢٠١١ ، هي الفئات الاجتماعيه والسياسيه التي طالب متظاهروا التحرير بابعادهم واقصائهم .
وبينما كنت اعيد التقييم من خلال مشروع منظم لكتابه تاريخ العصر الذي ارتبطت بنظامه .. ولا اندم علي ذلك الارتباط ، كان ان انفتحت علي عدد من الشباب الثائر .. الذين يمكنهم ان يقبلوا مبدأ النقاش ..والذين بادلوني انفتاحا بانفتاح . حيث التقينا سويا فوق جسور تعتلي هوة الزمن الذي بين اعمارنا ، وتجسر فجوه التناقض بين افكارنا .. دون ان يعني هذا ان احدا منا قد ذهب الي ضفه الاخر .. تماما كما لايمكن تخيل انهم قاربوا الخمسين سنه مثلي او انني عدت الي الثلاثينات و نهاية العشرينات التي مازالوا هم عندها .
استفدت ، وقد يكونوا استفادوا .. لا اتحدث نيابة عنهم . تعلمت ، وقد يكونوا تبادلوا معي الخبرات . فيما بعد قد يحين الوقت لكي اعرض لبعض تلك الافكار التي تناقشنا فيها .. لكن المهم هنا هي ان صديق عزيز وشاب ، عرفني قبل ايام الي طبيبه ، شابه بدورها، من هذا الجيل الغاضب الذي كان قد إعتصم اياما وليالي في ميدان التحرير .. لايري امامه سوي اهداف ثورته . وخلال النقاش .. كان ان استوقفتني مقوله نقلتها عن بعض ابناء جيلها : " إننا محبطون .. وفينا من لايريد ان يعلن إحباطه حتي لايشمت فيه الاخرون"!!
كنت أقرأ علي (تويتر) تعبيرات مماثله ، وامر عليها دون اعتناء ، لكنني ناقشتها - الطبيبه الشابه - في مدي جدية وصدق خشية الشعور بالشماته .. الي ان اكتشفت انه تخوف حقيقي لدي الكثيرين .. وكان ان راجعت مواقف كثيره ومقالات متنوعه .. فتبين لي انه قد - اقول قد - يمكن تفسيرها وفق مقياس (الخوف من الشماته) . و لا اريد ان اضرب امثله هنا حتي لايكون الامر تكريسا لهذه المشاعر الي يخشاها من راجعوا انفسهم ولايريدون ان يواجهونها بالحقيقه .. او واجهوها ولايرغبون في ان يعترفوا بذلك علنا .
إذن نحن أمام أمرين : الاحباط ، والخوف من الشماته .. أضف اليهما الرعب من ان يعود الزمان للوراء . لاحظ معي انها جميعا (مشاعر) ، تعبر عن حالة مزاجيه ، وعن وجدان مرتبك . حالة عاطفيه تؤثر في الاختيارات الواقعيه .. لو إستمرت لبقي الارتباك وينع التخبط وازدهر الجمود .. وحوصرت مصر في انقسامها ، الذي صنعته تلك المشاعر قبل ان ترسخه اجراءات وقوانين وسياسات وأخونه حرصت علي ان تبقي الشعب متشرذما .. اتباعاً لقاعده فرق تسد المعروفه .
أعرف كثيرا من العائلات تتنوع فيها الاتجاهات السياسيه بين الاجيال المختلفه .. وبين ابناء الجيل الواحد .. لايختلف الابن وامه ،ولاتختلف الابنه واباها ، بل ويمكن ان يتناقض الاخ وأخاه .. والزوجه وزوجها .. فبعد ان تمكنت الموجه الثوريه العارمه من تسيس العائله المصريه المنتميه للطبقه الوسطي في المدينه .. انتقلت حالة الاستقطاب من بين الاحزاب والاتجاهات السياسيه الي داخل البيوت .. وصار الشقاق مرضا مصريا عاما .. وهكذا يمكن ان تجد مصلون ينقلبون علي امامهم ويسبونه في قلب المسجد .. كما يمكن ان ترصد خلافا داخل كنيسه في حي .. لان شبابا يريدون ان يؤيدوا هذا .. وشبابا غيرهم يريد ان يؤيد ذاك .
لا استهن بهذا علي الاطلاق ، فقد كان للترتيب العائلي احترامه .. وكان الرابط الاسري اقوي من اي خلاف .. كما انه لم يكن لاحد ان يتصور ابدا ان يسمع شتيمه الامام داخل مسجد .. او ان يخالف المسيحي واعظه اذا مااقترح عليه شيئا .
نعود الي النقطه الاولي التي استلهمنا حكمتها من ام كلثوم .. وشروطها المستحيله لمعاهده غير ممكنه بعد ان " فات الميعاد " .. إن التاريخ لايكرر نفسه كما يردد الكثيرون .. بالتأكيد له حكمه وقيم ودروس مستفاده .. لكن الوقائع لايمكن ان تتكرر . وباليقين فان احد اهم أخطاء الاخوان البنيويه .. هم والتيارات الدينيه التي تتحالف معهم .. انهم يعتقدون اننا يمكن ان نرجع الي عصر قريش .. او يعتقد بعضهم ان الرئيس هو عثمان ابن عفان .
في الواقع هذه معضله نفسيه عامه .. ومتجذره في شخصيتنا . بعضنا حلم بأن يعود الناصر صلاح الدين .. وبعضنا يتمني حتي اليوم ان يعود جمال عبدالناصر .. ومازال فينا من يظن انه يمكن ان يكون فينا حاكم مثل خليفه رسول الله (ص) عمر بن الخطاب رضي الله عنه . لقد كانت تزعجني للغايه قصيده شهيره للاستاذ جمال بخيت عنوانها ( ارجع بقي ) .. وهي علي شاعريتها المدهشه الا انها تحسد مشكله في منظومه القيم .. حين تتحدث عن هذا الذي يتمناه ان يرجع لكي ( يفك حبل المشنقه ..ياجدرنا تحت التراب ..ياحلمنا فوق السحاب ) . أي كائن هذا الذي يمكن ان يصل الارض بالسماء ؟؟
ومن طرائف الامور ان هذا السقام النفسي المستغرق في ( الماضاويه) ظل منذ رصدناه انتقائيا .. يختار حقبا من تاريخ الخلافه الاسلاميه .. او نماذج من عصر المد القومي الناصري .. فلم اسمع أحدا يطالب بعودة مينا لكي يوحد الشعب الذي تفرق .. او إخناتون لكي ينبهنا الي اننا اكتشفنا كمصريين التوحيد قبل الاديان .. أو صناع الحضاره الخالدين أحمس ورمسيس وتحتمس وغيرهم .
لا أنا ، ولا الملايين الذين يقارنون الان بين العصور ، يمكن ان نعتقد ان زمن مبارك قد يعود .. لا أحد حسبه صلاح الدين .. ولا احد ظن انه عبدالناصر .. ولا اكسبه صفات شخصيه دينيه مبشره بالجنه كما فعلوا مع الرئيس مرسي . لكننا نعتقد ان هذا كان رئيسا وطنيا ، لم يخن بلده ، عمل من اجلها .. أخطأ بالتأكيد .. فهو بشر .. وأجل التغيير سنوات وهو مالم يكن مواتيا مع رغبات شعبه .
إن اهم رساله خرج الشباب من أجلها في ٢٥/٢٨ يناير هي ( التجديد) .. وقد كان جوهر هذه الموجه الثوريه هو المطالبه بالحداثه .. والمجتمع العصري .. والتطوير الذي تستحقه البلد .. ولا اعتقد ان نصف المجتمع الاخر الذي لم يشارك في هذا يرفض ايا من تلك الرغبات - الاهداف .. وان لم يقبل الطريقه والاسلوب .. او كان يستشرف التبعات والنتائج .
ولابد ان عدم تحقق اي من هذه الاهداف .. بل وتبين ان حكم الاخوان يقودنا الي ماهو نقيضها .. ويخالفها تماما .. بعد ان عاد المجتمع يناقش من جديد هل تتعلم المرأه ام تكتفي بالابتدائيه .. وبعد ان رجع الي مرحله الجدل حول مساحه مايمكن الكشف عنه من مساحه النقاب .. لابد ان هذا هو بعض اسباب الاحباط الذي يزيد يوما تلو آخر . لقد كتب لي شاب اعتبر نفسه ممن وصفتهم في مقالي السابق ب( الكريز الثائر) :" نحن الان ياسيدي محبطون .. ونادمون .. واغلبنا يهاجر بعد ماسببناه لبلدنا " .
لايسعدني هذا ، ولا اعتبره انتصارا شخصيا او ايديولجيا ، بل ان إحباط هذه الفئه وغيرها من الطبقه الوسطي لايمكن الا ان يضر المجتمع .. وإبتئاس بعض الشباب الثائر .. حتي لو جادل وهو يري حوله مايجري لمصر .. يمثل خساره كبيره .. لان هذا الشباب كان ولم يزل يمثل (طاقه حقيقيه) اضيفت الي مقومات المجتمع .. وعبرت عن اننا نحتاج الي اعاده بناء منظومه علاقتنا المجتمعيه .. وتقييم قيمنا .. وبالطبع وقبل كل هذا تطوير مؤسساتنا وتحديث دولتنا .
امتلك هذا الشباب الطاقه .. لكن عازته الرؤيه .. كانت لديه الرغبه ولم يكن يسانده مشروع .. حدد الشعار غير انه لم يجد من يصيغ له الهدف .. تصور ان مصر سوف تفتح الستار في يوم ١٢ فبراير ٢٠١١ علي عصر جديد .. فتكون الشوارع نظيفه .. والمرور منظم .. والفقراء مرفهون .. والعاطلون يعملون .. والعداله تسود بين الطبقات .. مقاصد نبيله لكنها تحتاج الي زمن لكي تتحقق .
في هذا السياق يثير دهشتي أن عددا من رموز النخبه المصريه المثقفه ، كانوا بين من شارك لسنوات طويله فيما عرف باسم ( المشروع النهضوي العربي - نداء المستقبل) .. وقد اعلنت وثيقته في ٢٠١٠ .. وتتضمن محاور اساسيه للنهوض .. هي : الوحده العربيه - الديموقراطيه - التنميه المستقله - العداله الاجتماعيه - الاستقلال الوطني - التجدد الحضاري .. وسبب دهشتي هو ان من شاركوا في كتابته شاركوا في الموجه المصريه الثوريه .. وتصدوا للتنظير لها .. لكنهم لم يعودوا اليه ..ولم يستفيدوا من افكاره .. وقادوا الشباب الي مايناقض التجدد الحضاري والاستقلال الوطني والتنميه المستقله والديموقراطيه .. من خلال تحالفهم مع الاخوان .. او تمرير اخطائهم لبعض الوقت .
وحين نقول ان تحقيق الاهداف يحتاج الي زمن فأن هذا لايعني اننا نتبني وجهة نظر الاخوان الذين يطالبون كل يوم بان يُمنحوا فرصه .. وان يصبر عليهم الشعب .. لكي يحققوا الانجاز . هذه غير تلك .. لان الاخوان ثبت انهم يريدون البلد لهم وحدهم .. وتاكدنا انهم يخالفون عهودهم .. وتبين للجميع بدون شك انهم ليس لديهم برنامج ولايتمتعون برؤيه .. وليست لديهم قدرات بشريه يمكنها ان تحقق ماتعلنه من شعارات .. كما انهم يريدون ان يفعلوا الشيء ويتلكمون عن نقيضه ..والاخطر انهم يريدونها دوله دينيه رجعيه يديرها المرشد من هضبة المقطم ..دون ان ينتخبه احد .
ولايريد الشباب المحبط ان يضيف الي معاناته النفسيه الشعور بشماته آخر ، معه حق ، كما انني انتقد كل من يعتقد ان تدهور الاوضاع وشيوع الفشل يعطيه الحق في ان يوجه اللوم لغيره .. او يبتسم في سخريه .. او يردد في تهكم " ألم نقل لكم " ؟ .. المشاعر الاولي والتصرفات الثانيه هي نوع من الطفوله السياسيه التي يجب ان نتجاوزها .. حتي الحارات المصريه التي كانت تتبادل فيها النساء مثل هذه المبارزات اللفظيه تطورت وترفعت عن ذلك . نحن لسنا في احد مشاهد الكيد بين زوجتي الشقيقين في فيلم ( الزوجه الثانيه) .. بل بصدد التصدي لازمه بلد .. تحتاج الي سواعد الجميع من اجل ان يعملوا سويا لكي تعبر من كبوتها .
وقد يمكنني تفسير تصرف نصف المجتمع الاخر .. الذي يتهكم او يسخر .. اذ ربما انه شعر بالاهانه .. وقد يكون واجه حمله معنويه ضاغطه .. وربما تعب من الهجوم النفسي الضاري الذي لم يحترم حقه في ان يختار مايشاء .. حين لاحقه بعض الشباب الثائر باتهامات التخلف والوقوف الي جانب الفساد ومساندة ماقالوا انه طغيان .. بل ان هذا وصل الي حد وصف نصف المجتمع الاخر بانه مصاب بمرض (متلازمه استوكهولم) .. اي كما لو انه رهينه يستعذب الام خاطفه ..ويريد ان يستعبده !
لانريد تسجيل نقاط لصالح هذا ضد ذاك او العكس .. المجتمع ليس اهلي وزمالك .. او موزعا بين مؤيدي البارسا وريال .. نريد ان نصل الي توافق مجتمعي .. اعتراف متبادل بين كل المصريين .. أخطأ الجميع .. والا لم يكن البلد ليصل الي هذا الذي هو عليه الان .. ولن يكون من حق احد ان يقول انه علي صواب .. الذين ثاروا كانت لهم مبرراتهم .. والذين ايدوا عصر مبارك لايريدونه ان يرجع .. ولكنهم يريدون ان يقيم بعداله وشفافيه ..وان يمنح التقدير اللائق من التاريخ .. وتلك ليست مهمه احد ممن يتبادلون المعايره . في التحليل الاخير كلاهما يواجه خطرا واحدا ضد الدوله المدنيه التي ىريدونها .. كلاهما يرغب في تطوير مصر .. كلاهما يريد العداله .. كلاهما لايمكن ان يقبل بهؤلاء الذين يريدون احتكار كل شيء .