هل التخوف من نظرية قد تحدث مستقبلا تستدعى إسقاطنا للمجهول قبل حدوثها وكل الشواهد السابقة تؤكد وفقا لتصريحات واضحة من الرئيس مبارك برفضة القاطع للتوريث وان مصر ليست سوريا - محمد عنان |
بقلم م /أحمد سرحان
كل أساليب تقديم جمال للمصريين لم تكن تدل اطلاقا على تحضيره لخلافة والده. كان التركيز على دور جمال (و مجموعته) من الناحية الاقتصادية فقط في حين أن الطريق الى سدة الحكم في دول مثل مصر لا يمر اطلاقا من هنا. لم يكن لجمال أي علاقة المؤسسة العسكرية - الطريق التاريخي لسدة الحكم في مصر والدول العربية و العالم الثالث. توريث الحكم في الدول العربية في السنوات الأخيرة تم بشكل كامل عن طريق المؤسسة العسكرية و الاسرة الحاكمة: سوريا، الأردن، المغرب، البحرين، الامارات. حتى لبنان، جاء رئيسها سليمان من قيادة الجيش مباشرة كما كان سلفه لحود كذلك .
لم يكن لجمال أي دور يذكر في علاقات مصر الأهم والأخطر مع الجوار العربي وإسرائيل. كما أن بضع زيارات الى الولايات المتحدة لا تعتبر اعدادا لرئيس قادم، خصوصا أنها زيارات اقتصادية في المقام الأول مع بعض التبادل الفكري بين أصحاب الفكر الجديد في الحزب الوطني ونظرائهم من ساسة الكونجرس. لم يكن لجمال (أو مجموعته) أي حضور في ملف علاقات مصر باسرائيل وعملية السلام والملف الأمني مع غزة، رغم أنه كان من الممكن تقديمه بشكل أفضل في ملف المساعدات الانسانية مثلا.
لم نسمع له أي حضور لافت في السياسة الخارجية المصرية بما في ذلك أزمة حرب غزة الخطيرة في اواخر 2008 أو جهود مؤتمر اعادة الاعمار في 2009 (يعتبر الكثيرون حرب غزة وما صحبها من هجوم على مصر أكبر أزمة واجهت حكم الرئيس مبارك وكان يمكن أن تكون شرارة الاطاحة به، ولكن القيادة السياسية المصرية أدارتها بحنكة و بفكر استراتيجي متميز وان عجز الخطاب الاعلامي الضعيف عن التسويق له). وبشكل عام، لم يكن لجمال أي تواجد في علاقات مصر بالدول العربية، وعلى رأسها السعودية والامارات والكويت والأردن ولبنان .
رغم انه من السهولة تقديمه كابن للرئيس ومساعد له بنفس الشكل الذي يتم فيه تقديم الجيل الثاني من القادة و السياسيين في هذه الدول التي تحكمها العائلات. وحيث ان العلاقات بين الدول العربية تعتمد في المقام الأول على العلاقات الانسانية بين القادة من مودة أو بغض، و تبرزها لقطات العناق حارا كان او باردا، فانه كان من الواضح ان جمال لا يحضر أي اجتماع يعقده والده مع القادة العرب أو حتى وزراء الخارجية في مصر أو يصاحبه في زياراته العربية. حتى مؤتمرات القمة العربية، لم يكن مبارك يصحب ابنه الى قاعات الاجتماع في القاهرة أو شرم الشيخ – على عكس المؤتمرات الاقتصادية مثل دافوس مثلا – أو يكلفه بحمل رسائل للقادة العرب عدا حضوره جنازة رفيق الحريري في لبنان مع وفد مصري رفيع. هل يعقل أن يكون جمال هو رئيس مصر القادم ولا يعرفه بشكل شخصي وعلى المستوى الإنساني أي من الملوك والرؤساء العرب، أو حتى وزراء الخارجية أو السفراء والمندوبين الدائمين في الجامعة العربية؟؟
واذا نظرنا الى كيفية اعداد الرئيس السادات لنائبه مبارك طوال الست سنوات التي سبقت توليه رئاسة مصر، سنجد أنه أعطى لنائبه ملفات العلاقات العربية بشكل رئيسي – وليست العلاقات الأمريكية - وتكررت زياراته الى الجزائر والمغرب و دول الخليج، وليس واشنطن. كمان أن السادات أشرك نائبه في عملية السلام والملفات الحساسة المصاحبة لها، بالاضافة الى اشراكه في أمور تخص القوات المسلحة وهو أحد قادتها وأبطالها. كان النائب وجها معروفا ذو علاقات متعددة مع الدول العربية واسرائيل بالاضافة الى المؤسسة العسكرية وجميع الوزارات والمحافظين. جمال لم يكن كذلك على الاطلاق، مما يعني انه لم يكن يتم اعداده للمنصب الرفيع.
حتى من يقولون بأن التوريث كان بالاتفاق مع واشنطن، لا يستطيعون تفسير القطيعة التي حدثت بين الرئيس مبارك و بوش الابن و التي استمرت 5 سنوات لم يقم خلالها الرئيس بزيارة البيت الأبيض اطلاقا! ألم يكن من الطبيعي ان تكون هذه هي الفترة التي يتم فيها تقديم جمال و الحصول على المباركة الامريكية في تتويج الوريث - كما يقولون؟ حتى عندما زار بوش شرم الشيخ اثناء مؤتمر دافوس في 2008، عامله مبارك ببرود شديد ولم يستقبله في المقر الرئاسي بشرم الشيخ ولم يحضر كلمة بوش امام المؤتمر بل انصرف الرئيس سريعا بعد القاء كلمته وبدون ان يصافح الرئيس الأمريكي في اخر أعوام ولايته الثانية بالبيت الأبيض.
أما الظهور الاعلامي لجمال والقول بتلميعه، فهي كلها مبالغات من الصحافة الخاصة التي كانت تزيد مبيعاتها كلما ظهرت صورته على أغلفتها رغم أنه لم يدل بأي حديث صحفي سوى مرة وحيدة لروز اليوسف. واذا تتبعنا عدد مرات ظهور جمال على شاشات التليفزيون مثلا طوال 10 سنوات منذ صعد اسمه في الحزب الوطني،سنجد أنه لم يظهر في احاديث تليفزيونية أو لقاءات سوى مرات قليلة معدودة كان اغلبها على قنوات أوربت المشفرة التي لا تصل سوى الى قطاع ضيق من المصريين. أما على تلفزيون الدولة فعلى ما اذكر فقد تحدث جمال مرة مع عبداللطيف المناوي في برنامج وجهة نظر و مرة مع لميس الحديدي، وهما برنامجان لم يحظيا نسبة مشاهدة عالية لدى المصريين. أما ظهوره الوحيد والأخير في برنامج ذو نسبة مشاهدة عالية فكان مع خيري رمضان في مصر انهارده 2010. كل هذه اللقاءات كانت تتصادف مع فترة انتخابات برلمانية أو مؤتمرات حزبية واطلاق برنامج الحزب، وكان جمال يتحدث بصفته الحزبية فقط وعن سياسات حزبه و برامجه وبكلام لا يوجد فيه أي افتئات على مهمة ودور الحكومة،
رغم أنه كان من الممكن أن يظهر بمظهر أكثر قيادية وكأنه الآمر الناهي و هو ما لم يفعله بل كان دائما يتحدث عن جهد الفريق و دوره المساوي لأدوارهم. كان من الممكن تلميع جمال بشكل أكبر من هذا خصوصا اذا علمنا ان عدد مرات ظهور وزير مثل المهندس رشيد محمد رشيد في التلفزيون المصري تجازو ال 20 مرة . كان اسم جمال ضيفا متكررا رغما عنه على أغلفة الصحف الخاصة التي تريد اضافة خلطة حريفة الى أخبارها وزيادة مبيعاتها عن طريق اقحام اسمه وصورته بدون داع مما اعطى انطباعات كثرة ظهوره و تلميعه و هو ما لم يكن صحيحا.
حتى من داخل أمانة السياسات و المجلس الأعلى للسياسات، تحدث كثيرون مثل د. حسام بدراوي و د. عبدالمنعم سعيد عن أن دور جمال كان تنسيقيا فقط و كان لا يتدخل في مناقشات الخبراء أو يحاول فرض رأيه أو الظهور بصورة القائد صاحب الرؤية التي عليهم اتباعها. حسب قولهم، كان جمال يعمل كحلقة الوصل بين اجتماعات الخبراء و رئيس الحزب ، ينقل توصياتهم الى رئاسة الجمهورية و لا يتدخل في القرارات.
اذن ، كان جمال بعيدا تماما عن كل الملفات الهامة وعن علاقات مصر بالولايات المتحدة و الغرب عموما و الدول العربية و إسرائيل و عملية السلام . و من المعروف أن الرئيس مبارك كان يمسك بكل خيوط السياسة الخارجية طوال فترة حكمه التي استمرت 3 عقود ويشرف عليها اشرافا مباشرا و كاملا. وبالتالي - ان كان قد اختار خليفته - كان لابد ان ينقل كل هذه الخبرة وما يتعلق بها من علاقات خاصة و ملفات سرية وحساسة ومعلومات استخباراتية وتوازنات دقيقة الى من سيأتي بعده. أعتقد أنه كان بإمكان مبارك بسهولة - بل كان ينبغي عليه - أن يشرك ابنه في كل أو بعض الملفات الخارجية ان كان بالفعل يعده لخلافته، ولكنه بالتأكيد لم يفعل !
اسم واحد كان يتردد بقوة في كل هذه الدوائر مسئولا عن أهم الملفات الخارجية طوال السنوات الماضية وتنطبق عليه مواصفات اعداد الخليفة: الوزير عمر سليمان.لأول مرة يعرف المصريون اسم و وجه رئيس مخابرات بلادهم وهو في منصبه ويصبح متداولا في الاعلام الرسمي بشكل كثيف و يظهر الرجل ملازما للرئيس في جميع المؤتمرات والكثير من اللقاءات ومبعوثا رفيعا له في العديد من الزيارات و الملفات الحساسة. أصبح عمر سليمان صاحب المهمات الحساسة التي تقتضي رؤية سياسية وأمنية، و في الوقت نفسه ترتبط بمصالح مصر العليا وتلتحم بها التحاماً مباشراً. أذكر هنا للتدليل على الدور الكبير الذي كان يلعبه سليمان صورة واحدة نشرتها وسائل الاعلام العالمية لسليمان أثناء مؤتمر اعادة اعمار غزة بعد الحرب الاسرائيلية في شرم الشيخ 2009 وهو يتحدث وقد تحلق حوله كل من الرئيس الفرنسي ساركوزي و براون رئيس الحكومة البريطانية و المستشارة الألمانية ميريكل و الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون مستمعين لما يقوله باهتمام بالغ.
لماذا سطع نجم سليمان طوال السنوات الماضية بهذا الشكل؟ وان كان التوريث حقيقة، ألم يكن من الأفضل ابقاء هذه الشخصية القوية في الظل بدلا من تقديمها كأقوى المرشحين لخلافة مبارك؟
واليوم يستخدم سيناريو التوريث، وبعد سقوط النظام، كتبرير ل 25 يناير وأنها حدثت كضربة استباقية لاجهاض المشروع في حين أن الشعارات التي رفعت حينها كانت تتحدث عن الخبز و العدالة الاجتماعية ثم ظهر شعار اسقاط النظام بدون أي ذكر للتوريث. حتى من يلمحون الى أن الجيش كان معترضا على سيناريو التوريث المزعوم، فهل يعقل أن الرئيس يترك كل هؤلاء القادة في مواقعهم رغم علمه بمعارضتهم؟ (وزير الدفاع هو الأطول في هذا الموقع في تاريخ مصر، ورئيس الأركان يعتبر الأطول خدمة في عهد مبارك). هو من عينهم و هو من أبقى عليهم هذه السنوات.
واذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يقبل "الثوار" بتعيين سليمان نائبا و تأكيده بكل حسم أنه لا الرئيس ولا ابنه سيترشح للرئاسة واستقالة جميع أعضاء هيئة المكتب بالحزب الحاكم بمن فيهم جمال مبارك في إشارة واضحة على انتهاء أي حديث عن هذا السيناريو - الذي أعتقد اعتقادا جازما انه لم يكن صحيحا بالمرة؟
الطريقة والسرعة التي تم فيها الاعلان عن تعيين النائب رغم امتناع مبارك طوال 30 عاما عن اختيار نائب للرئيس، تدل على أنه كان خيارا متاحا تمت دراسته و الاتفاق عليه منذ زمن وليس مجرد قرار عشوائي للقفز على الأزمة. وبالتأكيد، اعتبرت الإدارة الأمريكية هذا القرار "خطوة غير كافية" مطالبة بخطوات أخرى للانتقال الفوري للسلطة بما يعني رحيل مبارك ونائبه.
و بالفعل، يستخدم التوريث اليوم كمبرر واه ل 25 يناير و يتم الترويج لمقولة "اجهاض سيناريو التوريث" كمكسب رئيسي ل "الثورة" ، خصوصا وأن المبررات و "المكاسب" الأخرى تتهاوى واحدا تلو الآخر في ظل ما يشعر به الناس يوما بعد يوم أن المستقبل لن يكون أفضل كثيرا مما قبل 25 يناير ، ان لم يكن أسوأ - على الأقل اقتصاديا على المدى القصير و المتوسط، و الذي لن يكون مختلفا كثيرا على المدى الطويل.
0 Comments: