.

08‏/09‏/2011

الحكيم والسمكه







أرجو قراءتها حتى النهاية ..
وقد وقعت المسكينة في صنارته .. وبدت يائسة تخبط بزعانفها .. محاولة التخلص من
مصيرها المأساوي ..
غمرها بنظرات استغراب قائلا ،
**************
الحكيم : اعلمي أن الحكيم لا يعرف للحياة غير معنى واحد . وذلك المعنى هو الحرية. فحيث
لا حرية لا حياة. وكل ما يحد من حرية الحكيم هو موت له.


السمكة : وما هي الحرية ؟
الحكيم : هي أن أفكر ما أشاء، واشتهي ما أشاء، وأفعل ما أشاء، ساعة أشاء.


السمكة : وأين أنت من الحرية ؟
الحكيم : في الصميم. لذلك أبَيْتُ على أمير البلاد أن يقيدني بمنصب مهما يكن رفيعا. وفضلتُ
البقاء حرا اصطاد السمك، ساعة أشاء.


السمكة : أتراني أعظم من أمير البلاد ؟
الحكيم : كيف ذلك ؟ ولا شبه بينك وبينه ؟


السمكة : لقد فعلتُ ما لم يستطعه أميرك. إذ قيدتك بيديك ورجليك وقلبك وفكرك.
الحكيم : لا أفهم !


السمكة : وحريّ بك أن تفهم، وأنت الحكيم.
الحكيم : ولكن حكمتي غير حكمة الأسماك. أفصحي.


السمكة : أما ترى أنك، منذ الصباح الباكر، وأنت تطرح صنارتك في هذا النهر؟ ولقد رأيتُ
أكثر من واحدة من رفيقاتي يأكلن طعمك ويمضين في سبيلهن. وكم سمعتك
تتحرق وتتبرم وتتوعد. وأنا أكلتُ طعمك مرتين. أما الثالثة فكانت وبالاً علي وعليك.
الحكيم : عليكِ نعم، أما عليّ فلا. ولكن ما دخل ذلك في حريتي؟


السمكة : لقد كنتَ عبدي منذ الصباح الباكر حتى الآن . وها هو النهار قد انتصف . فكأنك
رهنتَ لي نصف نهار من حياتك وحريتك.
الحكيم : نصف نهار ليس بالشيء الكثير، أرهنه لحاجاتي الجسدية.


السمكة : وكم رهنتَ من حياتك وحريتك لصانع صنارتك وصانع القصبة والخيط ،
وصانع حذائك والكساء الذي على بدنك ، وباني كوخك ، وخباز خبزك ، والذين يمونونك
بالزيت والصابون والشاي والحطب وسواها مما تحتاج إليه كل يوم ؟
الحكيم : ما أفهم القصد من كل هذا.


السمكة : وحريّ بك أن تفهم وأنت الحكيم. أين حريتك، وجسدك رهين كل من في أيديهم
قضاء حاجاته ؟ فهو رهين كل ما على الأرض وفي السماء.
الحكيم : إن يكن جسدي رهين المخلوقات ففكري طليق.


السمكة : وها أنت قد رهنتَ لي من فكرك قسطا غير يسير. وأنا سمكة حقيرة. فكيف بغيري
من المخلوقات وهي لا تحصى؟ ومن أين أفكارك إلا منها وممن سبقك
وعاصرك من الناس وغير الناس؟
الحكيم : ذاك صحيح. ولكن، ما أخذته من الناس وغير الناس قد جعلني مستقلا عن الناس
وغير الناس.

السمكة : وهل أنت حر في كل ما تريده، أيها الحكيم ؟ إذن مرِ النعاس والجوع والعطش،
والتعب والمرض والموت أن يأتيك ساعة تشاء، وأن ينصرف ساعة تشاء. ثم
مر أحلامك في الليل وأفكارك في النهار، أن تجري حسب هواك. وإن أنت لم تستطع كل ذلك
فأين حريتك أيها الحكيم ؟
الحكيم : ما أفهم ماذا تقصدين بمثل هذا الكلام. أتريدين أن تقولي إنني وأنا الحكيم المعظم ،
لستُ حرا ؟؟


السمكة : كم مرة طرحتَ صنارتك في هذا النهر منذ جئته في الصباح ؟
الحكيم : لستُ أذكر. فقد يكون عشرين مرة . وقد يكون مائة، وأية علاقة لذلك بالحرية ؟


السمكة : بمثل هذه الخرافات يتعزى الحكماء. وقلبك أيها الحكيم، أليس هو كذلك رهين ما
على الأرض وفي السماء ؟ بل هو رهيني من الآن حتى أصبح في بطنك.
الحكيم : كلا ثم كلا. فأنا لا أشتهي ما يشتهيه الناس، ولا أسلم قلبي لأهوائهم.


السمكة : وها أنت اشتهيتني كما يشتهيني باقي الناس، فسلمتني قياد قلبك.لأن القلب رهين
ما يشتهيه.
الحكيم : لو اتخذنا قولك ميزاناً للحرية، أيتها السمكة، لما كان في الأرض انسان حر.


السمكة : ومن قال لك إن على سطح الأرض انسانا حرا ؟ الناس رهائن ما يجهلون . ولن
يتحرروا من أي مجهول، حتى يعرفوا كل مجهول. وها أنت تجهل أنك، إذ تتلف
حياتي وحريتي ، إنما تتلف جانبا من حياتك وحريتك . فمثلما تؤذي تؤذى. ومثلما تأكل تؤكل.
ولكن أنّى لك . وأنت الحكيم ، أن تفهم ذلك !
الحكيم : لو صدقتكِ لوجدتِني لا أملكُ من حياتي وحريتي قيد شعرة .


السمكة : صدقني أيها الحكيم. أما جئت هذا النهر، لأنك شئت أن تصطاد سمكا ؟
الحكيم : بلى ، وقد تم لي ما شئتُ.


السمكة : أما كنتَ تؤثر أن تصطاد سمكة أكبر مني بكثير ؟
الحكيم : بلى .


السمكة : إذن أنت ، إذ حصلتَ عليّ، حصلتَ على غير ما كنت تشاء، فأين حريتك ؟ وهل
تكون الحرية دون مشيئة ؟
الحكيم : لا . لا تكون الحرية بغير إرادة حرة .


السمكة : أما كنتَ تريد أن تصطاد ، في كل مرة ، سمكة كبيرة ؟
الحكيم : بلى .


السمكة : وكم سمكة اصطدتَ ؟
الحكيم : ما اصطدتُ من سوء حظي ، إلا سمكة صغيرة ثرثارة.


السمكة : أكنت تقصدها بعينها ، حين طرحتَ صنارتك في الماء ؟
الحكيم : لو كنتُ أعرف أن صنارتي ستأتيني بمثلها لحطمتها.


السمكة : إذن أنت لم تخترني بذاتي . ولا أردتني وحدي من بين كل ما في النهر من أسماك.
الحكيم : ذاك أكيد .


السمكة : وهكذا الناس، لكل صنارته ، يطرحها في هذا النهر ، أو ذلك البحر، من أنهار
الحياة وبحارها. وصنارته إرادته. فحينا تعلق بها سمكة. وحينا تعلق بها طحالب
وحشائش . وحينا لا تعلق بها إلا الخيبة .
وما من صياد سمك يقصد سمكة بعينها، إذ يطرح صنارته أو شبكته في الماء. فهو أعمى
يصطاد في الظلمة ، ولا يدري بماذا تتصدق عليه الظلمة .
الحكيم : ومن ذا الذي يقضي لصنارتي أن تعلق بها سمكة ثرثارة مثلك ، ولصنارة غيري أن
تعلق بها لؤلؤة ، ولصنارة الثالث أن تعود بالخيبة ؟


السمكة : إنه رب الكون ، ولعله الصياد ، و ... فأنت ، متى أتيت النهر راضياً بما سيقسمه
لك ، فقد جعلت إرادته إرادتك. وكنت إذ ذاك حكيما حقا . فسلكتَ أول طريق إلى
الحرية.
الحكيم : إن طريق الحرية لطريق موحش وشائك.


السمكة : بل هو بساط من الريح لمن يريد ما يعرف، ويعرف ما يريد. والآن عدْ أدراجك،
واستغفر ربك ألف مرة ومرة . انطلق بسلام ...
*****************


وكان أن الحكيم انشغل عن السمكة بحديثها. فما أتمت كلامها، حتى قفزت من يده إلى الماء.
فانتفض كمن أفاق من نوم عميق. ثم راح يتأمل الماء يجري وئيدا في النهر،
وعلى وجه النهر قد طفت القصبة التي كانت في يده.
وما درى كيف أفلتت السمكة من يده ومعها القصبة، ولا كيف أدركه الظلام . ولكنه تنفس
الصعداء، وقفل راجعا من حيث جاء.
وكان يمشي كأنه محمول على بساط من الريح.
انتهت.
( كتبتها لكم من كتاب قديم )

0 comments :

إرسال تعليق