إنَّ الفهم الموضوعي الرشيد لآليات الديمقراطية ونظمها وفلسفتها، كما رسمنا
إطارها النظري فيما سبق، ينتهي بنا إلى التسليم بأنها : نظام للعمل
السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أو هي بعبارة أخرى، إطار للعمل، ووسيلة
لتنظيم شؤون الحكم، أثبتت التجارب الإنسانية فعاليتها وصلاحيتها وملاءمتها
لطبيعة حياة المجتمعات الإنسانية المعاصرة وقدرتها على تحقيق المصالح
والمنافع والفوائد للأفراد والجماعات وللدول والحكومات. وغنيٌّ عن القول إن
الوسائل يحكم عليها من الغايات التي تخدمها، وإن إطار العمل في أيّ مجال،
يُنظر إليه من خلال المحتوى والمضمون والمردودية والأثر الذي يُحدثه في
المجتمع.
ولقد رأينا أنه من المناسب في هذا المقام أن نعود إلى الوثائق الأدبية للدكتور طه حسين، التي لم تنشر ضمن مؤلفاته، والتي منها محاضرة له حول الديمقراطية والحياة الاجتماعية، ألقاها سنة 1942 في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، أوضح فيها أن الديمقراطية ليست شكلاً بلا مضمون، وليست شكلاً واحداً، ولكنها تعبيرٌ عمليٌّ عن القاعدة العريضة للشعب في تطلعه الدائم للعدل والكفاية والحرية والقوت والأمن(20).
فالديمقراطية الحقيقية يجب أن تكون خلقاً، وخلقاً شائعاً بين الناس جميعاً، بين المواطنين جميعاً، بمعنى أن كل مواطن يجب أن يكون مؤمناً فيما بينه وبين نفسه إذا خلا إلى نفسه ولم يشعر بأن أحداً يراقبه، يجب أن يكون مؤمناً بأنه مساوٍ لمواطنه في حقوقه وواجباته، وبأنه لا ينبغي أن يستأثر من دون مواطنيه، وبأنه لا ينبغي أن يكذب على مواطنيه، وإذا تحدث إليهم فيزعم أنه مؤمن بالمساواة، فإذا خلا إلى نفسه أو إلى شياطينه سخر بالمساواة وبالمواطنين جميعاً. وهذا الخلق الديمقراطي هو الشرط الأساس للديمقراطية الصحيحة (21). وهذه كلها من الأخلاق التي دعا الإسلام إلى التحلّي بها، ومن القيم التي حثّ على إشاعتها بين الناس.
وهكذا فإنَّ الديمقراطية من أخصّ ما تمتاز به أنها شيء قابل للنموّ، قابل للتطوّر المستمر، لا يمكن أن ينتهي ولا أن يصل إلى غاية لا يتعدّاها، لأن الديمقراطية قبل كل شيء، طموحٌ إلى المثل العليا يسعى الناس في سبيلها ما وسعهم السعي، يحقّقون منها شيئاً، ولكنهم لا يصلون إلى أن يحقّقوها كاملة إلاَّ إذا كان قدر للإنسان أن يحقّق مثله العليا كاملة (22).
وحينما نسلّم بأن الديمقراطية إطار متحرّك وليست نظاماً جامداً لا يتغيّر،وأنها قابلة للنموّ وفقاً لطبيعة المتغيّرات، نجد أنفسنا أمام مخرج من المأزق الذي تسعى أطراف دولية، خاصة منها القطب الذي يهيمن اليوم على السياسة الدولية، إلى الزجّ بنا فيه، حين تفرض على دول العالم، ومنها دول العالم الإسلامي، الديمقراطيةَ على النمط الذي ترتضيه لنا، منتهكةً بذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يقرّ بحقّ الاختلاف، وبالخصوصيات الثقافية والحضارية للأمم والشعوب.
إنَّ أهمية الاستشهاد بهذه الفقرات من محاضرة الدكتور طه حسين عن الديمقراطية، تأتي من جهتين اثنتين ؛ أولاهما أن صاحبها تخصّص أولاً في الأدب والتاريخ اليونانيين، وكان أول منصب شغله في الجامعة بعد عودته من بعثته إلى السوربون في باريس، أستاذ التاريخ اليوناني في كلية الآداب، وثانيتهما أن هذه المحاضرة ألقيت إبّان الحرب العالمية الثانية وفي الجامعة الأمريكية بالذات، في مرحلة غليان فكري وثقافي كان يمهد لتغيّرات عميقة.
ولا يمكن الاختلاف على أي نحو من الأنحاء، على المضمون السياسي والاجتماعي للديمقراطية، الذي لا يَتَعارَضُ في العمق والجوهر، مع المفهوم الإسلامي للنظام السياسي الذي يصلح للحكم وإدارة الشؤون العامة. وقد جاء في وثيقة مكتبة الأسكندرية : >أن الديمقراطية هي النظام الذي يعتبر الحريةَ القيمةَ الأساس والأعلى، وهي التوصل إلى السيادة الحقيقية للشعوب بحيث تحكم نفسها بنفسها من خلال التعدّدية السياسية التي تقود إلى تغيير الحكومة، وهي نظام يقوم على احترام كل حقوق الفكر والتنظيم وحرية التعبير للجميع< (23).
وإذا كان من إضافة نسوقها هنا، فهي أن الحرية باعتبارها قيمة من القيم السامية، لا ينبغي في المنظور الإسلامي، أن تمسّ الثوابت الدينية التي هي من المعلوم من الدين بالضرورة، وهو ما يصطلح عليه في الأدبيات السياسية المعاصرة، بالمقدسات أو بالمبادئ العامة التي تنصّ عليها الدساتير.
وتأسيساً على ذلك، فإنَّ الديمقراطية باعتبارها نظاماً للحكم غير جامد، ولا يستعصي على التطوّر والتجدّد، لابد وأن تخضع لضوابط تتحكم في آلياتها. وإرادة المجتمع الحرّ المستقل هي التي تضع هذه الضوابط، بحيث لا سبيل إلى فرض الديمقراطية قهراً وإرغاماً وبالتهديد وبالإكراه، لأن الشعوب لا تنصاع لهذا الضرب من (الإرهاب الديمقراطي)، إن صحَّ التعبير، ولكنها تنقاد إلى ما ينبع من خصوصياتها الثقافية ويعبّر عن ذاتيتها الحضارية.
إننا نسلم بأن هناك اختلافاً جذرياً بين الفكر الإسلامي والديمقراطية الغربية بخصوص المقاصد والغايات ؛ فالنظام الغربي لا تدخل في اعتباره الأمور الدينية ويتركها للكنيسة، كما أنه يترك الجوانب الأخلاقية للفرد وضمير الجماعة، أما النظام الإسلامي فإنه يُدخل في فروض الكفاية التي يتولاها وليُّ الأمر نيابة عن الأمة أموراً دينية وأخلاقية بجانب الأمور الدنيوية (24).
ولا يمنع هذا الاختلاف من أن يتعايش نظام الشورى الإسلامي في سهولة ويسر مع النظام الديمقراطي الغربي في ظلّ العولمة التي تجتاح العالم، خاصة وأن العالم الغربي يشكو الآن من الطغيان المادي وما صاحَبَهُ من خواء روحي. إن النظامين معاً يعترفان بمجموعة من المبادئ، أهمُّها : المساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات، وكفالة مجموعة من الحريات والحقوق العامة، ويختلف النظامان في أصل هذه المبادئ والحريات والحقوق، فالنظام الغربي يستنبطها من ضمير الجماعة ومن مبادئ العدالة والقانون الطبيعي، أما الفكر الإسلامي فيردّها إلى فروض الكفاية أو فروض العين، ويعدُّ بعضَها من حقوق اللَّّه، وبعضها الآخر من حقوق العباد، وهناك نوع ثالث يدخل في عداد الحقوق المشتركة بين اللَّه والعباد (25).
وبهذه الرؤية المستوعبة للواقع الدولي وما يحفل به من متغيّرات، وبهذا الفهم الواضح لطبيعة العصر وما يعجّ به من تحدّيات، ننظر إلى الديمقراطية باعتبارها نظاماً سياسياً إجرائياً قابلاً للتكيّف مع الواقع في بلدان العالم الإسلامي، لا يتعارض من حيث الجوهر والقصد النبيل، مع مبادئ الشورى والعدل والمساواة والكرامة الإنسانية.
وتأسيساً على ذلك، فإن الديمقراطية اختيارٌ لابد أن نأخذ منه ما يتناسب مع مرجعيتنا الحضارية ومقاصد ديننا الحنيف، ولا يمكن أن نقبل بفرض أي نمط من أنماط الديمقراطية علينا، لأن في ذلك، فضلاً عن كونه تجاوزاً للقوانين والأعراف الدولية، قهراً لإرادة الشعوب ومحواً لشخصيتها.
ولقد رأينا أنه من المناسب في هذا المقام أن نعود إلى الوثائق الأدبية للدكتور طه حسين، التي لم تنشر ضمن مؤلفاته، والتي منها محاضرة له حول الديمقراطية والحياة الاجتماعية، ألقاها سنة 1942 في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، أوضح فيها أن الديمقراطية ليست شكلاً بلا مضمون، وليست شكلاً واحداً، ولكنها تعبيرٌ عمليٌّ عن القاعدة العريضة للشعب في تطلعه الدائم للعدل والكفاية والحرية والقوت والأمن(20).
فالديمقراطية الحقيقية يجب أن تكون خلقاً، وخلقاً شائعاً بين الناس جميعاً، بين المواطنين جميعاً، بمعنى أن كل مواطن يجب أن يكون مؤمناً فيما بينه وبين نفسه إذا خلا إلى نفسه ولم يشعر بأن أحداً يراقبه، يجب أن يكون مؤمناً بأنه مساوٍ لمواطنه في حقوقه وواجباته، وبأنه لا ينبغي أن يستأثر من دون مواطنيه، وبأنه لا ينبغي أن يكذب على مواطنيه، وإذا تحدث إليهم فيزعم أنه مؤمن بالمساواة، فإذا خلا إلى نفسه أو إلى شياطينه سخر بالمساواة وبالمواطنين جميعاً. وهذا الخلق الديمقراطي هو الشرط الأساس للديمقراطية الصحيحة (21). وهذه كلها من الأخلاق التي دعا الإسلام إلى التحلّي بها، ومن القيم التي حثّ على إشاعتها بين الناس.
وهكذا فإنَّ الديمقراطية من أخصّ ما تمتاز به أنها شيء قابل للنموّ، قابل للتطوّر المستمر، لا يمكن أن ينتهي ولا أن يصل إلى غاية لا يتعدّاها، لأن الديمقراطية قبل كل شيء، طموحٌ إلى المثل العليا يسعى الناس في سبيلها ما وسعهم السعي، يحقّقون منها شيئاً، ولكنهم لا يصلون إلى أن يحقّقوها كاملة إلاَّ إذا كان قدر للإنسان أن يحقّق مثله العليا كاملة (22).
وحينما نسلّم بأن الديمقراطية إطار متحرّك وليست نظاماً جامداً لا يتغيّر،وأنها قابلة للنموّ وفقاً لطبيعة المتغيّرات، نجد أنفسنا أمام مخرج من المأزق الذي تسعى أطراف دولية، خاصة منها القطب الذي يهيمن اليوم على السياسة الدولية، إلى الزجّ بنا فيه، حين تفرض على دول العالم، ومنها دول العالم الإسلامي، الديمقراطيةَ على النمط الذي ترتضيه لنا، منتهكةً بذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يقرّ بحقّ الاختلاف، وبالخصوصيات الثقافية والحضارية للأمم والشعوب.
إنَّ أهمية الاستشهاد بهذه الفقرات من محاضرة الدكتور طه حسين عن الديمقراطية، تأتي من جهتين اثنتين ؛ أولاهما أن صاحبها تخصّص أولاً في الأدب والتاريخ اليونانيين، وكان أول منصب شغله في الجامعة بعد عودته من بعثته إلى السوربون في باريس، أستاذ التاريخ اليوناني في كلية الآداب، وثانيتهما أن هذه المحاضرة ألقيت إبّان الحرب العالمية الثانية وفي الجامعة الأمريكية بالذات، في مرحلة غليان فكري وثقافي كان يمهد لتغيّرات عميقة.
ولا يمكن الاختلاف على أي نحو من الأنحاء، على المضمون السياسي والاجتماعي للديمقراطية، الذي لا يَتَعارَضُ في العمق والجوهر، مع المفهوم الإسلامي للنظام السياسي الذي يصلح للحكم وإدارة الشؤون العامة. وقد جاء في وثيقة مكتبة الأسكندرية : >أن الديمقراطية هي النظام الذي يعتبر الحريةَ القيمةَ الأساس والأعلى، وهي التوصل إلى السيادة الحقيقية للشعوب بحيث تحكم نفسها بنفسها من خلال التعدّدية السياسية التي تقود إلى تغيير الحكومة، وهي نظام يقوم على احترام كل حقوق الفكر والتنظيم وحرية التعبير للجميع< (23).
وإذا كان من إضافة نسوقها هنا، فهي أن الحرية باعتبارها قيمة من القيم السامية، لا ينبغي في المنظور الإسلامي، أن تمسّ الثوابت الدينية التي هي من المعلوم من الدين بالضرورة، وهو ما يصطلح عليه في الأدبيات السياسية المعاصرة، بالمقدسات أو بالمبادئ العامة التي تنصّ عليها الدساتير.
وتأسيساً على ذلك، فإنَّ الديمقراطية باعتبارها نظاماً للحكم غير جامد، ولا يستعصي على التطوّر والتجدّد، لابد وأن تخضع لضوابط تتحكم في آلياتها. وإرادة المجتمع الحرّ المستقل هي التي تضع هذه الضوابط، بحيث لا سبيل إلى فرض الديمقراطية قهراً وإرغاماً وبالتهديد وبالإكراه، لأن الشعوب لا تنصاع لهذا الضرب من (الإرهاب الديمقراطي)، إن صحَّ التعبير، ولكنها تنقاد إلى ما ينبع من خصوصياتها الثقافية ويعبّر عن ذاتيتها الحضارية.
إننا نسلم بأن هناك اختلافاً جذرياً بين الفكر الإسلامي والديمقراطية الغربية بخصوص المقاصد والغايات ؛ فالنظام الغربي لا تدخل في اعتباره الأمور الدينية ويتركها للكنيسة، كما أنه يترك الجوانب الأخلاقية للفرد وضمير الجماعة، أما النظام الإسلامي فإنه يُدخل في فروض الكفاية التي يتولاها وليُّ الأمر نيابة عن الأمة أموراً دينية وأخلاقية بجانب الأمور الدنيوية (24).
ولا يمنع هذا الاختلاف من أن يتعايش نظام الشورى الإسلامي في سهولة ويسر مع النظام الديمقراطي الغربي في ظلّ العولمة التي تجتاح العالم، خاصة وأن العالم الغربي يشكو الآن من الطغيان المادي وما صاحَبَهُ من خواء روحي. إن النظامين معاً يعترفان بمجموعة من المبادئ، أهمُّها : المساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات، وكفالة مجموعة من الحريات والحقوق العامة، ويختلف النظامان في أصل هذه المبادئ والحريات والحقوق، فالنظام الغربي يستنبطها من ضمير الجماعة ومن مبادئ العدالة والقانون الطبيعي، أما الفكر الإسلامي فيردّها إلى فروض الكفاية أو فروض العين، ويعدُّ بعضَها من حقوق اللَّّه، وبعضها الآخر من حقوق العباد، وهناك نوع ثالث يدخل في عداد الحقوق المشتركة بين اللَّه والعباد (25).
وبهذه الرؤية المستوعبة للواقع الدولي وما يحفل به من متغيّرات، وبهذا الفهم الواضح لطبيعة العصر وما يعجّ به من تحدّيات، ننظر إلى الديمقراطية باعتبارها نظاماً سياسياً إجرائياً قابلاً للتكيّف مع الواقع في بلدان العالم الإسلامي، لا يتعارض من حيث الجوهر والقصد النبيل، مع مبادئ الشورى والعدل والمساواة والكرامة الإنسانية.
وتأسيساً على ذلك، فإن الديمقراطية اختيارٌ لابد أن نأخذ منه ما يتناسب مع مرجعيتنا الحضارية ومقاصد ديننا الحنيف، ولا يمكن أن نقبل بفرض أي نمط من أنماط الديمقراطية علينا، لأن في ذلك، فضلاً عن كونه تجاوزاً للقوانين والأعراف الدولية، قهراً لإرادة الشعوب ومحواً لشخصيتها.
0 Comments: